سورة هود - تفسير تفسير ابن عجيبة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (هود)


        


يقول الحق جل جلاله: {ولما جاء أمرنُا}: عذابنا لقوم شعيب، {نجينا شعيباً والذين آمنوا معه برحمة منا}، لا بعمل استحقوا به ذلك؛ إذ كل من عنده، {وأخذت الذين ظلموا الصيحةُ} قيل: صاح بهم جبريل فهلكوا، {فأصبحوا في ديارهم جاثمين}: ميتين. وأصل الجثوم: اللزوم في المكان. {كأن لم يَغْنَوا فيها} كأن لم يقيموا فيها ساعة، {ألا بعْداً لمدين كما بَعِدَتْ ثمودُ}، شبههم بهم؛ لأن عذابهم كان أيضاً بالصيحة، غير أن صيحة ثمود كانت من فوق، وصيحة مدين كانت من تحت، على ما قيل، ويدل عليه: التعبير عنهما بالرجفة في آية أخرى. والرجفة في الغالب إنما تكون من ناحية الأرض. وفي البيضاوي خلاف هذا، وهو غير جَيد.
قال قتادة: بعث الله شعيباً إلى أمتين: أصحاب الأيكة، وأصحاب مدين، فأهلك أصحاب الأيكة بالظلة، على ما يأتي، وأما أهل مدين فصاح بهم جبريل صيحة؛ فهلكوا أجمعين. قيل: وآمن بشعيب من الفئتين: تسعمائة إنسان. وكان أهل الأيكة أهل غيطة وشجر، وكان شجرهم الدَّوْم وهو شجر المُقْل.
الإشارة: سبب النجاة من الهلاك في الدارين: توحيد الله، وتعظيم من جاء من عند الله. وسبب الهلاك: الإشراك بالله، وإهانة من عظمه الله. والله تعالى أعلم.


يقول الحق جل جلاله: {ولقد أرسلنا موسى بآياتنا}؛ بمعجزاتنا الدالة على صدقه، {وسلطان مبين}؛ وتسلط ظاهر على فرعون، أو برهان بيِّن على نبوته. قال البيضاوي: والفرق بينهما: أن الآية تعم الأمارة والدليل القاطع، والسلطان يخص بالقاطع، والمبين يخص بما فيه جلاء. اهـ. أرسلناه {إلى فرعون وملئه}؛ جماعته، {فاتبعوا أمرَ فرعون} أي: اتبعوا أمره بالكفر بموسى، أو: فما اتبعوا موسى الهادي إلى الحق، المؤيد بالمعجزات القاهرة الباهرة، واتبعوا طريقة فرعون المنهمك في الضلالة والطغيان، الداعي إلى ما لا يخفى فساده على من له أدنى مسكة من العقل؛ لفرط جهالتهم، وعدم استبصارهم، {وما أمرُ فرعون برشيد} أي: ليس أمره برشد وصواب، وإنما هو غي وضلال.
{يَقْدُمُ قومَه يوم القيامة} إلى النار، كما يتقدم في الدنيا إلى الضلال، {فأوردهم}: أدخلهم {النار} ذكره بلفظ الماضي؛ مبالغة في تحققه، ونزّل النار لهم منزلة الماء، فسمى إتيانها مورداً ثم قال: {وبئس الورد المورود} أي: بئس المَوْرد الذي وردوه، فإنَّ المورد إنما يراد لتبريد الأكباد، وتسكين العطش، والنار بضد ذلك. والآية كالدليل على قوله: {وما أمر فرعون برشيد}؛ فإنَّ من هذا عاقبته لم يكن في أمره رشد، أو تفسير له، على أن المراد بالرشيد: ما يكون مأمون العاقبة حميدها. قاله البيضاوي. {وأتبعوا في هذه لعنةً ويومَ القيامة} أي: تتبعهم اللعنة في الدارين {بئس الرفدُ المرفود}: بئس العون المعان، أو العطاء المعطى. فالرفد: العطاء، والإرفاد: المعونة، ومنه: رفادة قريش، أي: معونتهم للفقراء في الحج بالطعام. والمخصوص بالذم محذوف، أي: رفدهم، وهو اللعنة في الدارين.
الإشارة: إذا أردتَ أن تعرف قدر الرجل في مرتبة الخصوصية؛ فاسأل عن إمامه الذي يقتدى به، فإن كان من أهل الخصوصية فصاحبه من الخصوص، إن دامت صحبته معه، وإن كان من العموم فصاحبه من العموم. والمراد بالخصوصية: تحقيق مقام الفناء، ودخول بلاد المعاني. فكل من لم يحصل مقام الفناء، ولم يشهد إلا المحسوسات فهو من العوام، ولو بلغ من العلم والعمل ما بلغ، ولو رأى من الكرامات أمثال الجبال. فمن صحب مثل هذا الذي لم يفن عن نفسه، ولم يخرج عن دائرة حسه، لم يخرج من العمومية؛ لأن نفسه فرعونية. قال تعالى: {وما أمر فرعون برشيد}، وفي الخبر: «المَرْءُ على دين خليله» وقال الشاعر:
عن المرءِ لا تسأل وسَلْ عن قرينه *** فكلُّ قرينٍ بالمُقارَنِ يَقْتَدي
والله تعالى أعلم.


قلت: {ذلك}: مبتدأ. و{من أنباء}: خبر، و{نقصه}: خبر ثان. وجملة: {منها قائم وحصيد}: استئنافية لا حالية؛ لعدم الرابط.
يقول الحق جل جلاله: {ذلك} النبأ الذي أخبرناك به في هذه السورة، هو {من أنباء القرى} الماضية المهلَكة، {نقصه عليك}، ونخبرك به؛ تهديداً لأمتك وتسلية لك. {منها} ما هو {قائم} البناء باقي الأثر، {و} منها {حصيد} أي: محصود عافي الأثر، كالزرع المحصود. أو: منها ما هو ساكن بقوم آخرين، قائم العمارة بغير من هلك، ومنها ما هو دارس عفى أثره، واندرست أطلالُه.
قال تعالى: {وما ظلمناهم} بإهلاكنا إياهم، {ولكن ظلموا أنفسهم} بأن عرضوها له؛ بارتكابهم ما يوجب هلاكهم، فعبدوا معي غيري، {فما أغنت عنهم}: ما نفعتهم، ولا قدرت أن تدفع عنهم العذاب، {آلهتهم التي يدعون من دون الله من شيء} من ذلك العذاب، {لما جاء أمر ربك}؛ حين جاءهم عذابه {وكذلك أخذُ ربك} أي: مثل ذلك الأخذ الوبيل أخذ ربك {إذا أَخَذَ القرى وهي ظالمةٌ} فلا يمهلها، وقد يمهلها ثم يأخذها. فكل ظالم معرض لذلك. وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم: «إنَّ اللَّهَ ليُمْلِي للظَّالِمِ، حَتى إِذا أَخَذَهُ لَمْ يُفلِتْهُ» ثم قرأ: {وكذلك أخذ ربك...} الآية. فالآية تعم قرى المؤمنين؛ حيث عبَّر بظالمة دون كافرة. قاله ابن عطية. {إن أخذه أليم شديد}؛ وجيع عظيم، غير مرجو الخلاص منه، وهو مبالغة في التهديد والتحذير.
{إن في ذلك} الذي نسرده عليك من قصص الأمم الدارسة، {لآية}؛ لعبرة {لمن خاف عذابَ الآخرة} فيعتبر به ويتعظ؛ لعلمه بأن ما خاق بهم أنموذج مما أعد الله للمجرمين في الآخرة. وأما من أنكر الآخرة فلا ينفعه هذا الوعظ والتذكير؛ لفساد قلبه، وموت روحه.
{ذلك} أي: يوم القيامة الذي وقع التخويف به، {يوم مجموعٌ له الناسُ}: محشورون إليه أينما كانوا. وعبَّر باسم المفعول دون الفعل؛ للدلالة على الثبوت والاستقرار، ليكون أبلغ؛ لأن {مجموع} أبلغ من يجمع. {وذلك يوم مشهود} أي: تشهده أهل السماوات وأهل الأرض؛ لفصل القضاء، ويحضره الأولون والآخرون، لاقتضاء الثواب والعقاب. فاليوم مشهود فيه، فحذف الظرف اتساعاً.. {وما نُؤخره إلا لأَجلٍ معدود} أي: إلا لانتهاء مدة معدودة في علم الله، لا يتقدم ولا يتأخر عنها، قد اختص الله تعالى به. والله تعالى أعلم.
الإشارة: التفكر والاعتبار من أفضل عبادة الأبرار؛ لأنه يزهد في الدنيا الفانية، ويشوق إلى دار الباقية، ويرقق القلب، ويستدعي مخافة الرب، فلينظر الإنسان بعين الاعتبار في الأمم الخالية، والقرون الماضية، والأماكن الدارسة؛ كيف رحل أهلها عن الدنيا أحوج ما كانوا إليها، وتركوها أحب ما كانت إليهم؟ وفي بعض الخطب الوعظية: أين الفراعين المتكبرة، وأين جنودها المعسكرات؟ أين الأكاسير المنكسرة؟ وأين كنوزها المقنطرات؟ أين ملكوك قيصر والروم؟ وأين قصورها المشيدات؟ أين ملوك عدن؟ أهل الملابس والحيجان؟ وأين ملوك اليمن، أهل العمائم والتيجان؟ قد دارت عليهم والله الأقدار الدائرات، وجرت عليهم برياحها العاصفات، وأسكنتهم تحت أطباق الرجام المنكرات، وصيرت أجسامهم طعمة للديدان والحشرات، وأيمت منهم الزوجات، وأيتمت منهم البنين والبنات. أفضوا إلى ما قدموا، وانقادوا قهراً إلى القضاء وسلموا. فلا ما كانوا أملوا أدركوا، ولا إلى ما فاتهم من العمل الصالح رجعوا. وبالله التوفيق.

8 | 9 | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15